ميه و أربعه و عشرين


..وحين أفصحت له عن هوسي بالفولكس (الخنفسة).. صمت طويلاً.. ثم لمعت عيناه و اندفع سيل من الذكريات و الحنين إلى الفيات 124 ذات اللون (الطحيني) التي اشتراها والده في السبعينات و التي تحولت إلى تاكسي بعد نجاتها من الموت المحقق إثر غرقها في (الرشّاح), يبدو أنها تشبثت بالحياة أكثر من أخيه و عمته و ابنها النجيب..
ال 124 كانت وش السعد على صاحبها الجدبد, فوحده لم ينعتها (بوش الشؤم) بعد الحادثة المأساوية, و كان أول من فكّر في الاطمئنان عليها بعد قيام (الونش) بإخراجها من الرشّاح.. استجابت ال124 لذلك الفتى ابن السادسة عشرة حين أدار المفتاح في (الكونتاك), ليعلن صوت محركها عن أصالة معدنها, وعن رغبتها في (صون العشرة) و إكمال المشوار..
و لما تركها صاحبها و سافر إلى العراق في الثمانينات, أحزنها الفراق, و أعياها طول الانتظار, فداهمها مرض شديد..
عادت الحياة إلى أوصالها بعد عودة صاحبها.. استعادت هيبتها و شموخها, و قبّلت عجلاتها الشوارع المزدحمة من جديد..
بعد عام.. و لأن بقاء الحال من المحال.. باعها صاحبها قبل سفره بعد حصوله على فرصة عمل مهمة في العراق أيضاَ (ستعرف ماذا كان يعمل هناك في نهاية حديثه)..
صاحبها و صاحبنا يذكرها بالخير حتى الآن, و لا ينسى أيامها الحلوة, و يردد دوماً: يا ريتني ما بعتها..
بالمناسبة.. صاحبنا ينتظر (الفرج) ليشتري سيارة تشبهها فهو لا يملك التاكسي الذي يقوده..
لما سألته: بعد ما رجعت من العراق دورت عليها؟
أجابني بشجن: اللي بيروح ما بيرجعش يا بيه..

(مش عارف ليه حاسس إنها غطست في الرشّاح و ما طلعتش المرّه دي)
.......................

استمع إلى أولى حواديت الناس الغلابة:

"ميه و أربعه و عشرين"
المدّة: 8:54
المكان: شوارع القاهرة
الوقت: قبل الفجر




إفعص هنا للتحميل

...............................................


الليل وأخره يا ولداه

رغم قصر المسافة بين عرض الحدوتة الأولى التي تحتاج إلي الكثبر من التفكيروالتأمل الا أنها استجلبت من الشجون ما أود تناوله معك ،فقد بدت وكأنها تمثل حلقة متواصلة لا تنفصل عن بنية الرؤية عند الراوي فلم يكن زمن الحدوتة الأولى من حواديت الناس الغلابة (قبل الفجر) أي عمق الليل بعيدا عن شعار المدونة وسواء كان ذلك قصديا أو بالصدفة البحتة فهناك انحياز معلن من الراوي أبو الليل— يابو الغلابة ياليل إروي العطاشى يا ليل وها هوالليل يبوح بالمستور ولعل في هذا البوح بعض منه

العزيز أبو الليل
أتذكر فى حوار مع أحد النشطاء السياسين الغربين يعمل فى مؤسسة طوعية وعاش مدة طويله فى بلاد مختلفة فى الشرق الأوسط منها مصر عندما قال لي ردا على سؤاله بعد عشريبن عاما من العمل فى المنطقة وكانت كلماته تبدو نافذه وتختلط بكثير من التأملات أن الخوف من العار هو أحد حلقات الضعف فى الذات الشرق أوسطية وبحكم دراسته وعمله فى المجال الاجتماعي كان يرى أن المجتمعات العربية تتعامل مع الفقر كعار كبير ووصمة وقضية شخصية بطريقة مأساوية بعيدا عن التعامل معه كنيجة لعجز القيادات والنخب فى إدارة الموارد وأهمهاالموارد البشرية وأضاف قائلا والغريب أن هذه نظرة وعقيدة لها جذورها البروتستانتية وبصرف النظر عن دقة هذه الملاحظة أو صحتها لكن كلماته استدعت قراءات صحفية ودراسات تناولت قضية الفقرمنها على سبيل المثال دراسة دمصطفى حجازي -التخلف الاجتماعى- سيكولوجية الإنسان المقهور وفي الصحافة يوسف إدريس و مقالته الشهيرة "أهمية أن نتثقف يا ناس" التى كتبها فى باب مفكرة بالأهرام ثم قام بنشرها فى كتاب يحمل إسمها مع مقالات أخرى عن دار المستقبل العربى الطبعةالأولى 1985 التى تعتبر من أشهر المقالات الصحفية والتى اشتبك بسببها مع وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة آن ذاك وكانت تحمل توجسات وفزع فنان وروائى لما آلت اليه الأمور وما هو قادم بعد أن تكاملت او كادت معالمه، وتاريخ المقالة تزامن مع الكتلة الزمنية التى تدور فيها الحدوتة أى ظرفها التاريخى

و--بعد
لقد كانت هذه المقدمة نوع من التفاكر معك يا صديقى العزيز على هامش هذه الإضافة المبدعة

أما عن حواديت الغلابة
تلك القدرة على البداية من عمق المأساة إلى دينامية الصراع من أجل البقاء ولبس لكل حال لبوسها من تحت الرشاح سواق إلى تحت الأقدام جزمجي تلك اللغة اللامؤاخذية وتفاصيل الإثارة هوامش لتاريخ بين السبعينيات والثمنينيات والتسعينيات والى الأن حدوتة مصرية فى ثمان دقائق تلخص رحلةلأكثرمن ثلاثين سنة وتلك المرادفات الإيمانية التى تتخللها والاستعداد بأرشيف قدري يتراوح بين اليأس والصبر" ربك لما بيريد" "اللي بيروح ما بيرجعش يا بيه..

غنائهم كرجفة الشتاء فى ذؤبة المطر
وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب
خطاهمو تريد أن تسوخ في التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
ومؤمنون بالقدر

على أية حال

هناك فى عالم الرواية نوع من التوجه لشكل من أشكال التحقيق الصحفى الذى يمتزج فيه الفن بمناهج العلوم الاجتماعية والنفسية ويتم التراسل فيه بين العلوم والفنون " راجع معظم أعمال صنع الله أبرهيم" اللجنة ،نجمة أغسطس،إنسان السد العالي،بيروت بيروت، ذات ،شرف-- على سبيل المثال-- بعدما استعصي الواقع نفسه على الخيال—مما يستدعي أحيانا –ضرب الكف بالكف- كم أشرت في الجدارية الإرشادية، تتزامن الحدوتة الأولى مع مشاهدتي" لفيلم البنات دول " ومتابعتى لتلك الضجة التى سببها هذا الفيلم التسجيلى الذى يتناول مجموعة من بنات الشارع "غامضي التنصيف" على هوامش الصياعة والجنس والجريمة والتشرد والإدمان وإن كان الفيلم قدم وتكلم (عن) البنات دول من خلال عين الكاميرا واختيار مشاهد من تصوير قيل أنه استغرق العام ليختصر فى 90 دقيقة – قد يكون هذا ما جعلنى اتسائل بعد قرائتي لنصك واستماعي للحدوتة،" عن الغلابه دول" خارج دائرة الجنوح والإنحراف خصوصا وأن الغلب مرتبط ارتباطا وثيقا بالفقر وكما تعلم بين الفقر والكفرحرف ولست هنا أقصد الكفر بمعناه الميتافزيقى" أي الكفر الكول" ولكن أقصد الكفر بالمجتمع ذاته الفقرالذى يتعوذ منه الصالحون الذى قال عنه الخليفه إمام المتقين لو كان الفقر رجل لقتلته فإذا كان هناك قطاع يعد بالملاين تحت خط الفقر فإن ملأ الفجوه بين خط الفقر وتحته لمجرد الوجود منطقة ومساحة شديدة الإلتباس والتعقيد تحت ضغوط قيم استهلاكية مكتسبة وشديدة الشراسة تجعل من الأنصات والانتباه لحواديت الناس الغلابة مهمة-- أكثر قليلا من أضعف الأيمان كما تقول الجداريةالإرشادية

ملاحظات فى الهامش

بعيد عن تلك المساحة الفنية بين حكي الراوى والاستماع للحدوتة الأولى والتى لاتخرج عن بنية الراوى الحكائية والعلاقة بين الصورة والعنوان التى ترتبط بالنص المكتوب والنص الشفاهي فالعنوان "ميه وأربعه وعشرين"له دلالاته في مخيلة قطاع كبير من قطاعات الناس الغلابة وما تمثله من طوق نجاة بامتلاكها كما كانت العربة البيجو تمثل سقفا لهذا الحلم كنوع من الائتمان وتخطى لحاجز طبقى موهوم

................................................................

رغم وجود مشاريع ضخمة
من جامعات كبيرة عالميه تحاول تسجيل التاريخ الشفاهي
فى مناطق متفرقة من العالم بوسائل لها مناهجها وضوابطها الاكاديمية
الا ان هناك خصوصية وابداع فى ان يلتقط فنان حواديت شفاهية
بعدسات رؤيته ومن خلال اندماجه فى ومع الحكي


الحدوتة الأولى من حواديت الناس الغلابة

ميه وأربعه وعشرين

قراءة

عندما نراجع كلمة غلب فى بعض معاجم اللغة مثل لسان العرب: غلَبهُ وغلَب أي قهرهُ واعتزَّ عليهِ وامتنع، وفي الوسيط غَلَبَ فلانًا على الشيءِ: أخذه منه كَرْهًا فهو غالب.

وكلمة الغلب أو" الغلابه" لا تتجانس فى اللسان الشعبى فقط مع الفقر والعوزولكنها تبسط دلالاتها أيضا مع المسالمة والرضى و تقارب الانكسار أو المسكنة أو حتى القهر وتمتد تلك الدلالة لتلامس الدعة والتجاوز عن الاستفزاز وتحمل العجرفة، والغلبان بطىء الغضب سريع الرضى مفطور على التواطىء مع أي نوع من أنواع السلطة بالصمت والالتفاف والابتعاد عن مواطن نفوذها و نواهيها، لايكتفى بالبعد عن الشر بل يغني له أيضا، وعندما يقال" ده راجل غلبان" يعنى أنه مأمون الجانب، سهل السلب"المعزة تاكل عشاه" . وعلى هوامش تلك التأملات المختصرة لمشتقات كلمة الغلابة أحاول الاستماع إلى الحدوتة الأولى وإذا كانت الحدوتة الأولى تفترض من الراوي أولا انتباه أو فلنقل اهتمام بالناس الغلابه فهى تفترض ثانيا اختراق لخطاب مغيب رغم انه يمثل قطاع كبير من الشعب بل فلنقل هو القطاع الأغلب وليس "الغلباوي" أو الأغلبية الصامتة، تلك التى يتكلم "عنها" المثقفين ولا يتكلمون" معها" أو" لها " وكأنها قارة مجهولة أو فى زمن آخر- الأغلبية الصامتة ذلك الكنز السياسي المحجوب والمرصود الذى لم يستطع أحد الوصول إليه" وهنا ينبغى التأمل جيدا فهل هى فعلا اغلبية صامتة أم أن الخطاب الثقافوي فقد القدرة والرغبة فى الاستماع إليها ناهيك عن التواصل معها، إن المتأمل فى لغة الغلبان يستطيع بسهولة أن يدرك أنها لغة "مختلفة" ولا أشير هنا إلى نقص التعليم والثقافة وتلك الحزمة التقليدية(1) أو حتى أنها لغة "بيئة"- تلك الكلمة السفيهة التى تلوكها ألسنة غارقة فى السطحية حتى النخاع- وهى لغة تختلف أيضا عن تلك الأنماط التسويقية (الكاريكترية) في بعض الأفلام كاللمبي -رغم أهميتها- ولكن اللغة نفسها في الشكل والمضمون وخلوها من أي نوع من أنواع الادعاء وهي هنا تختلف عن لغة الطبقة المتوسطة المتحسبة والمتحفظة، ولكن قبل الانصات و الاستماع إلى الغلبان فلنحاول أن نبحث عن الراوي الذي نجح أن يغيب نفسه "غيبة كبري" مع الغلبان فى تلك الدقائق الثمان لقد كان وجود الراوى تجسيد لخفة الوجود الممكنة وكأنه تحول إلى جسر لعبور الحكي ونجح أيضا بعد ذلك أن يغيب نصه المكتوب لحد بعيد كخلفية للنص الشفاهي (الحدوته) بل وأن يفصله تقريبا، وهنا جديد الحكي التدويني،فقد كان الكاتب يعطي نفسه مطلق الحريه أن يرسم اشخاصه الذين يختارهم من الواقع كما يشاء، ولكن هنا يتنازل الكاتب للشخصية بأن تقوم هي برسم وموضعة نفسها ،في تثوير لفعل الحكي فعوضا عن راوي واحد هناك راويان للنص أبوالليل من جهة وسائق التاكسى وهناك نصان بين الكتابة والحكي والمشافهة بكل ما يترتب على ذلك من وسع فليس هنالك نص كتابي يستطيع ان يحمل نبرة الصوت وبصمته ودلالته الطبقية كما لايوجد صوت يستطيع أن يحمل لمعة العين ويلتقط تفعالات الشجون على صفحة الوجه هاهنا تمازج وتفاعل تثويري للحكي التدوينى واختراق متعدد المنافذ لسطة الكتابة من جهة وانفصال العوالم والخطابات من جهة اخرى ليكون فعل القراءة شىء ما يتعدى التلقي الي المشاركة فى بناء الرؤية ورصدا للأثر فأذا كان الفن عبر عن حلم التجاوز من خلال مقولة العين تسمع والأذن ترى فها هو الحكي التدويني يساهم فى تجويز هذا الحلم، فعندما نعود إلى نص الراوي أو "المتلصص بحق" نجد أنه قام فى هذا النص بحيلة سردية من عالم الفوزيات ولكنه هذه المرة ذهب أبعد غورا فعوضا عن أنسنة الحيوانات فقد "شطح بعيدا" بالمصطلح الصوفي و أنسن العربية التي كانت دائرة الحكي وكان صوتها ومشاعرها هو جوهر النص وقد بدأت عملية انسنة العربية من الإسم/العنوان الذي حرص الراوي على كتابته حروفا لاأرقاما ليبدو كأسم ثلاثي يقول الراوي أبو الليل:

"بعد نجاتها من الموت المحقق إثر غرقها في (الرشّاح), يبدو أنها تشبثت بالحياة أكثر من أخيه و عمته و ابنها النجيب"

يلاحظ هنا حيوية متدرجة او فلنقل احياء نصي متدرج للعربية في البداية "نجاتها" ثم "من الموت المحقق" ثم إثر غرقها، وعندما تأتي كلمة تشبثت تكون دورة الحياة اكتملت لتبدأ دورة الإرادة، ثم يتم الاستدراج ليكمل للعربية أنوثتها
استجابت الميه وأربعة وعشرين لذلك الفتى ابن السادسة عشرة حين أدار المفتاح في (الكونتاك), ليعلن صوت محركها عن أصالة معدنها, وعن رغبتها في (صون العشرة) و إكمال المشوار.. لاحظ هنا اللغة الساخنه بل والمثيرة

وبعد ذلك يقوم الراوي بنقلة نوعية فى المشاعر المتبادلة بين الفراق والهجر والحرمان والسهد والصد ثم الوصل وجددت حبك "--لما تركها صاحبها و سافر إلى العراق في الثمانينات, أحزنها الفراق, و أعياها طول الانتظار, فداهمها مرض شديد.. عادت الحياة إلى أوصالها بعد عودة صاحبها.. استعادت هيبتها و شموخها, و قبّلت عجلاتها الشوارع المزدحمة من جديد.

ولكن هذه العلاقة لم تكن من طرف واحد.

انظر
"صمت طويلاً.. ثم لمعت عيناه و اندفع سيل من الذكريات و الحنين إلى الفيات الميه وأربعه وعشرين ذات اللون (الطحيني)
..... فوحده لم ينعتها (بوش الشؤم) بعد الحادثة المأساوية, و كان أول من فكّر في الاطمئنان عليها بعد قيام (الونش) بإخراجها من الرشّاح........ يذكرها بالخير حتى الآن, و لا ينسى أيامها الحلوة, و يردد دوماً: يا ريتني ما بعتها"

يبدو الراوي هنا حر فى حكيه بصورة بديعة فهو غير أسير لاعتقادات المتلقي وتصنيف الكائنات وهو يقوم ببث الحياة في ذات اللون الطحيني بكل حنان وشجن، وكأنه تعمد تمرير نصه بوضعه كمقدمة تمهيدية للنص المسجل أو الشفاهي، وهكذا هو حال الناس الغلابة لهم سياق وبنية تُفعّل وتسمح بتجاوزهم لا اراديا، لقد بدى الغلبان كهامش فى النص مقابل وجودها (العربية) كهامش فى شفاهية الغلبان، لقد كان هناك شىء مشترك شديد الكثافة بين الغلبان والراوي هو ما أشعل فتيل الحكي وهو ذلك الارتباط الخاص بالعربية أو فلنقل العلاقه العاطفية لكل منهم بالحبيبة- عبر عنها الراوي "بالهوس" منسجما مع رؤيته وعبر عنها الغلبان "بوش السعد" منسجما مع طبقته،

يقول الراوي :
"..وحين أفصحت له عن هوسي بالفولكس (الخنفسة).. صمت طويلاً.. ثم لمعت عيناه"
تشير كلمة وحين بنقاطها الخلفية أن الحوار كان متصلا قبلها وتوحي ايضا أن الحوار كان بشكل مباشر عن العربيات، فى هذا الحين أو تلك اللحظة بالذات، والتى كشف عنها أبو الليل فى تعليق للرد على سؤال علان
كبسة زر التسجيل هي اللحظة الواعية الوحيدة بعد "ومضة الانتباه",

وكلمة ومضة تشير الي مساحة بين الالهام والفعل وتوحى أيضا بأنها موضع اختراق خطاب مغيب رغم أنه يمثل كما قلنا قطاع كبير لا نقول من المجتمع بل من الشعب، لقد اقترب الراوي جدا من حواديت الناس الغلابة في هذه الحدوته ولكن إلى أي حد استطاع التخلص من هيمنة خطابات تجذرت وتسربت الي لاوعينا؟ وبمعنى آخر هل انحاز الراوي نصا وشفاهة للعربية أم للغلبان؟ وهنا تتعدد القراءات:

منها
أن كلمة النهاية تدين زمن الغلبان وتنحاز للميه اربعة وعشرين (عنوان الحدوته) دون أن يخفي الراوي ذلك. وتجلي هذا في السطور الثلاث الأخيرة من النص:
-حمل الاول منها مركز اهتمام الراوي: لما سألته: بعد ما رجعت من العراق دورت عليها؟
- وحمل الثانى منها رصد الراوي لشجن وندم الغلبان وافتقاده للعربية: أجابني بشجن: اللي بيروح ما بيرجعش يا بيه..
-ثم حمل السطر الأخير ما قد يبدو انحياز الراوي للعربية وكأنه ينصفها من الغلبان وزمنه (مش عارف ليه حاسس إنها غطست في الرشّاح و ما طلعتش المرّه دي) فتبدو الحدوته وكأنها عن الميه أربعة وعشرين الغلبانه كما حكاها الغلبان حكي مشتبك بعمق مع وجوده وحلمه كقصة حب غامضة لابن السادسة عشرة و البنت ميه وأربعه وعشرين ذات اللون الطحيني التي تأثر لها الراوي.

وقراءة أخرى

أن الميه اربعة وعشرين هي حلم الغلبان الذي تسرب من بين يديه، وأن الراوي أخفي تأثره بلمعة العين وانفعاله بشجن الغلبان، مداريا هذا بلغة محايدة تجاه الغلبان، بقصد دفع المتلقي -دون الوقوع في مباشرة التعاطف- للانحياز للغلبان واصراره على أن يعيش ويحاول ويغامر وفي سبيله هذا يُنتزع منه مره ويفقد مرات ما يذهب فى سكة اللى يروح ميرجعش.

وهكذا بين نص الراوي الأول أبوالليل ونص الراوي الثانى الغلبان تتعدد القراءات لتكون القراءة مشاركة فى إنتاج المعنى وتكون الحدوته الأولى من حواديت الناس الغلابة،اضاءة جديدة لجانب من جوانب الحكي في عالم التدوين لتظل القراءات مفتوحة اللأفق تفتض بكارت المعنى وتخصب حقول البوح--،ويظل الفن وإلهامه وومضته السبيل الوحيد لإبداع الوسيلة وتطويعها للعبور بين الخطابات المختلفة ومبادلة المواقع بين المراكز والهوامش، وفي انتظار الحدوته الثانية سوف نظل نتأمل ونفكر لنكتشف المزيد من فن الاستماع إلى حواديت الناس الغلابة.

-------------------------------------------
هامش
(1)
يقول عبد الحكيم قاسم انا لااكتب لإحشد الجماهير للثورة، بل اكتب لتكون كتابتي مساهمة قي إجراء تحوير في ضمير المجتمع حتى يكون عكسا أقرب الى الصحة لواقع أن فيه أكثر من 90% يعيشون أدنى من الكفاف. على ان الطبقات الشعبية فى مجتمعنا ليست بسبب الأميه تكوينا مصمتا لا تنفذ فيه إشعاعات جهود الكتاب الشرفاء.هذا تصور لقضية الأمية يعتمد فى المحل الاول على مراجع اوربية ترى الأمية من خلال خبرتها بمجتمعاتها وقلة خبرتها بمجتمعاتنا.الأمي فى المجتمع المتقدم صناعيا- والذى تكون معرفة القراءة والكتابة فيه ضرورة حياتية- هو شخص خارج عن المجتمع بسب نقص عقلى أو جسدي. في مجتمعاتنا ليست معرفة القراءة والكتابة ضرورة حياتية، وقد يتقدم الأمي في مراقي التطورالاجتماعي صعدا.هذا إلى انه لم يخترأن يكون أميا بل فرض عليه هذا وبقي شوقه لأن يعرف قائما.لذلك توجد دائرة المستمعين والراوي. وتوجد ما تزال الكتب الشعبيه والسير والمناقب التى يتلقاها هؤلاء الناس والتى هي أعمق انسانيا من الصحافة الدارجة ورويات الجنس والجريمة التى يقرئها الناس فى أوروبا.هذه الدوائرالقارئة المتلقية عندنا وإن لم تقرأ كتبنا إلا أنها حساسة للتغير الذي يطرأ على ضمير المجتمع لارتباطها به ببصيرتها لا بصرها---انتهى. (الأدب – العددان الثانى والثالث عدد خاص عن الرواية العربية الجديدة- فبراير مارس 1980 عبد الحكيم قاسم-ملامح تجربتي الروائية ص127)