نقلت توتري و حالتي المزاجية السيئة لكل كائنات تلك الجزيرة المجهولة, و التي اضطررت للرسو على شاطئها بعد أن نفذ مخزون الأكسجين و الوقود من غواصتي الخضراء الصغيرة..
يبدو أن بن يقظان و روبنسون كروزو و توم هانكوزو و غيرهم كانوا أكثر هدوءاً و حكمة مني في هذه التجربة..
أن تقودك الظروف للحياة وحيداً في مكان بكر لم تطأه أقدام الحضارة و المدنية..
ليتني كنت أحضرت مزيدا من السجائر..
كنت أردد تلك العبارة و أنا في قمة الغضب, و تصادف مرور وحيد القرن و معه صغيره, فلما بادرني بالتحية و الترحيب بسلامة الوصول, أشحت عنه بوجهي و نهرته بنبرة حادة قائلاً: "طبعاً ما عندكمش سجاير و لا شيشة و لا أي حاجة في جزيرتكم الفقرية دي", فنظر لي بازدراء و قال: "ما ترد السلام طيب, أما انك واطي و قليل الأصل صحيح. بعدين إيه الغواصة العرّة بنت الوسخة اللي انت راكبها دي؟ عموماً أنا عامل دماغ فستكونيا و مش حضيعها عالهبل ده, بعد ما انتخب ليا كلام تاني معاك..سلام", وقبل أن ينهي عبارته اندفع صغيره في اتجاهي مسنتراً قرنه الوحيد في مرمى مؤخرتي لكن الأب صاح في آخر لحظة: "سيبك منه يا بني ده برضه ضيفنا".
ذهبت إلى غواصتي أفتش عن ما تبقى من طعام و شراب, و أدركت أن ما حملت لن يكفيني أكثر من ثلاثة أيام, فازداد غضبي, و خصوصاً حين اكتشفت أنه لا توجد أي علامة تدل على وجود تغطية إرسال لهاتفي النوكيا الذي ابتعته الشهر الماضي من شارع عبعزيز بالضمان.. و طبعاً البطارية ستحتاج لإعادة شحن حتى أتمكن من تسلية وقتي بالاستماع إلى الأغاني أو الاستمتاع ببعض الألعاب البضان .. و أثناء انشغالي بالتفكير في مصيري الكارثي على هذه الجزيرة, مر فيل رمادي بخرطوم معقود, ففعل مثل مواطنه وحيد القرن مرحباً بي و مهنئاً على سلامة الوصول, فصرخت في وجهه: "أكيد ما عندكمش شاحن نوكيا و لا بيتزا و لا أي زفت في جزيرتكم المخروبة دي, بعدين أيه أم زلومتك أم عقدة دي؟ هي ناقصة تعقيد بروح امكم؟"
نظر لي الفيل باستغراب و استهجان قائلاً: "بالراحة علينا يا كابتن, لولا إنك ضيفنا كنت طللعت ميتين أهلك بعدين إيه الغواصة المسخرة اللي جايلنا بيها دي؟, عموماً بعد ما انتخب ليا كلام تاني معاك..سلام"
تمتمت بيني و بين نفسي: " أحه.. إيه الجزيرة المناخوليا دي؟ انتخابات إيه بس اللي مسروعين عليها, أنا شكلي وقعت في نقرة هرتلة و لا حدش سمى عليا"
كِمْلت.. أهو الأخ غوريلا شّرف و جاي ناحيتي: "ألف حمد الله عالسلامة.. الجزيرة نورت حقيقي"
سألته بفظاظة: "خيلتوني منك ليه, إرحموا أمي و خللوني أشوف حعمل أيه في سنتي اللي مش فايتة, روح يا عم انتخب و حل عن سمايا"
"ها ها ها ها إيه الغواصة بنت القحبة اللي راكنها عالشط دي,شكلك عبيط ياد, راجعلك.. بس بعد ما انتخب ليا كلام تاني معاك..سلام"
كنت قاعد بولول زي النسوان, و بقول: الحقيني يامّا شوفتي اللي بيحصل لضناكي, و أثناء الولولة كنت بضرب كيس شيبسي لأسُدّ به بعضاً من جوعي..
مرت الساعات و أنا أتأمل نصيبي و حظي المنيّل قابعاً في غواصتي الخضراء الصغيرة التي نفذ منها الأكسجين و الوقود و بضعة أكياس من الشيبسي و لوحين من الشيكولاتة المبندقة (اللي فيها بندق)..
دخل الليل برهبته, و أصبح المكان شديد الوحشة..
بدأت ثورتي تخمد تدريجياً..تبدل الغضب إلى شعور بالانكسار... و الخوف, لم أستطع مقاومة دموعي التي انهمرت بغزارة لأول مرة منذ زمن بعيد.. بعيد جداً... على ما يبدو, نسيت طعم ملح الدموع, نسيت كيف كنت أترجم أوجاعي إلى بكاء, بدلاً من تحويلها إلى قسوة.. قسوة على نفسي و على من حولي.. ياله من جبروت مزّيف ذلك الذي نخترعه لأنفسنا ذات وجع, لندفن انكساراتنا تحت أساسات خرسانية مسدودة المسام.. لا تسمح لذرة أكسجين واحدة بالمرور.. ها هو الأساس الخرساني يتشقق, و ها هي المياه المالحة تنخر في أسياخ الحديد.. تتفتت شيئاً فشيئأ.. تنفجر الأرض المصنوعة.. و تظهر من جديد الأرض الأم.. يتسلل الأكسجين من جديد ليقبّل أرضه المسجونة تحت توابيت العلب الممسوخة.. (مزيكا حزايني مضروبة في الخلاط مع تلج مجروش)
كان هدير البحر يغازل ظلال النور التي حاكها قمر يقصّ الحكايات لنجمات و غيمات.. للرمال.. و لغابة مسحورة تنعس في حضن الجبال و لا تنام..
كيف لم أر كل هذا الجمال؟
تبدد الخوف.. تبدد انكساري.. ملأت صدري بذلك الهواء الجديد.. استنشقت حنيناً إلى حنين لم أتذوقه من قبل..(مزيكا متفائلة من متتابعة إنشكاح اليعسوب العائد إلى غيط الكستناء)
طرقات على نافذة غواصتي الخضراء الصغيرة..
خرجت..
وحيد القرن.. و الفيل و الغوريلا يتقدمون آخرين.. تعلو وجوههم ابتسامات ودودة (من المودة مش من التدويد)..
"بقيت أحسن دلوقتي؟"
قالوها و هم يحملون لي سجائراً و بيتزا (سي فود) و شاحن نوكيا أصلي (مع مولد كهربا)
لم يعطوني أية فرصة للاعتذار..
وضعوا الأغراض جانباً, ثم حمل كل منهم آلة موسيقية و غنوا جميعاً أغنية تتحدث عن الحب و الرضا و الوطن (من مقام بياتي اللا)..
سألتهم بعد أن شكرتهم: "هو انتوا انتخبتوا بجد؟ يعني عندكم انتخابات و استفتاءات زينا؟"
فشخر أحدهم (لم أتبين ملامحه عشان كان واقف ورا و الدنيا ضلمة)
" خخخخخ أحه.. يعني هو ده اللي لفت نظرك بروح خالتك؟ أمال ليه ما استغربتش من إن عندنا سجاير و بيتزا و شاحن نوكيا؟؟"
لحقت نفسي قبل ما يتأكدوا من هطلي و غبائي المتأصل: "لا يا عم الحاج انت فهمتني غلط, أنا كان قصدي هو الانتخابات و الاستفتاءات مضروبة عندكم زي عندنا؟"
أنا قلت البق ده من هنا و عينك ما تشوف إلا النور.. الحشد كله وقع على الأرض في نوبة من الضحك الهيستيري رجت أركان الجزيرة الهادئة.
سألت وحيد القرن (اللي بيعمل دماغ فستكونيا): "إيه يا معلم هو انا قلت حاجة غلط؟ همه بيضحكوا على إيه؟"
أجابني و هو لا زال يقهقه مقلوباً على قفاه: "هو انت جاي من هناك؟ نياهاهاها..."
...........................
علان العلانى فوزي وأزمنة الغوصقراءةفوزي فى الغواصة هذا العنوان غاطس فى مباشرته ولكن الغوص كما فى الأعماق يكون فى الواقع أيضا وفى انعكاس هذا الواقع على هوامش المعنى وكذلك الصورة (تصميما أو اختيارا) هي وجه فوزي المرئي تعكس الرؤية الفوزوية، الى جانب إزاحة الكمالة بعد الإشارة للأجازة—فعندما نسأل كنت غائصا/غاطسا فين؟ فلهذا السؤال دلالته التى توحي بأن السائل يتشكك أنه سوف يجد لسؤاله جوابا واضحا بين الأعماق والواقع وأنه يشيرفقط لانتباهه للغياب وما قد يحيط به من غموض--- بين الرؤية الفوزوية وبين الغوص وتلك الجزيرة التى وصلها فوزي غائصا هذه المرة بعدما وصل لجزيرة مشابهة جاريا (1)، لا بد للقراءة أن تتوزع داخل الفوزويات: مع فوزى الكلب- فوزى اعتصامات- وأيضا نموت نموت وتحيا نوكيا- فى شبكة تناص تغوص فيها المعاني على امتداد زمن المدونة نفسه.النص والهروب الاضطراري من المعنىالهبوط الاضطراري يستخدم فيه الطيار كل خبرته للنجاة بطائرته/نصه فى المساحة المتاحة وفى حرص شديد من الارتطام وهكذا تحمل بداية النص مجموعة من إجراءات في شكل كلمات: توتري/ اضطراري ، يبدأ النص بسهم سردي تقريري وحاسم: " نقلت توتري و حالتي المزاجية السيئة لكل كائنات تلك الجزيرة المجهولة" والمباشرة هنا تفتح نوافذ المخيلة على أسباب التوتر والحالة المزاجية السيئة من جهة، والغموض الذي يلف الإشارة إلى الجزيرة المجهولة من جهة أخرى(2) وفى ملاحقة سردية يغزل بهاالراوى نسيج الحكي يلحق بسهمه السردي الأول معلومات مرتبة تلا حق تسائلات القارىء وهى تتكون فى مخيلته بكيف وأين ولماذا موضحا: "التي اضطررت للرسو على شاطئها بعد أن نفذ مخزون الأكسجين و الوقود من غواصتي الخضراء الصغيرة.. يبدو أن بن يقظان و روبنسون كروزو و توم هانكوزو و غيرهم كانوا أكثر هدوءاً و حكمة مني في هذه التجربة". بين أجوبة الراوي واستباق مخيلة القارىء هناك حكي حي ومتفاعل ينساب فى دائرة التواطىء التي تفتح بينهما بابا للتواصل السردي، إلا إن هناك علامة لا تخطئها العين- إسم علم يفلت رغم التمويه حي بن يقظان - يشيد للمعنى جسرا من التوتر في هذه التجربة، فحي بن يقظان يختلف اختلافا جذريا وجوهريا عن كل التجارب التالية، فهو نشأ بالكامل خارج نظام/خطاب السلطة وسلطة الخطاب فهو لم يكن متعلقا بنظام أو هيمنات متصارعة بخلاف روبينسون كروزو وغيره الذين حدثت معهم قطيعة بين تكويناتهم وما أضطروا اليه من العزلة فقد كانت ذاكرتهم الأستهلاكية تحاصرهم بينما بن يقظان فى انسجام مع محيطه غير مستعبد له. لقد كان فوزى يعلم بهذا المأزق من قبل ففي محاورة سابقة بينه وبين أبو الليل فى مار س من العام الماضى في" نموت نموت وتحيا نوكيا":"فوزي: آه جينا لكلام الشيوعيين و الحقد الطبقي.أبو الليل: كس ام غباءك يا فوزي انت مش فاهمني.. الشركات اللي بتقدم سلع إستهلاكية , أهم ناس فيها, همه الناس اللي بيرسموا استراتيجيات الدخول إلى شيفرة نفسية المستهلك, يعني بالبلدي إزاي أخللي واحد زي فوزي يوصل لمرحلة يشعر فيها, إن اقتناء موبايل حديث و متطور هو احتياج حقيقي و ليس مزيفاً, الرغبة في امتلاك شيء قد لا تحتاجه, لكنه شيء يستطيع إبهار مناطق ما من متطلباتك الحسية و المعنوية, إنه فن و علم يا فوزي.. فن سحب النقود من جيوبك يا فوزي.."ولكن الأمر لا يتوقف عند سحب النقود من الجيوب أنه يخلق حالة اعتياد تتحول إلى حالة استعباد، فما هى احتياجات فوزي عندما انقطعت به السبل "ليتني كنت أحضرت مزيدا من السجائر" (هامش جانبي:علاقة فوزى مع السجائر تعطى انطباع بأنه لم يغادر فصول الثانوية العامة أو أمضى الكثير من الوقت معتقلا فهي إحدى العلامات الملازمة لفوزى إلى جانب البيض والتونة وأشياء أخرى وتمثل مع التونة حجة الغياب) . وهكذا إذا لقد أنجز الراوى فيما لا يتجاوز خمسة سطور عملية الرسو بالنص ليبدأ فى رسم معالم الرؤية بداية من "كنت أردد تلك العبارة وأنا في قمة الغضب" إلى أخر حديثه مع الغوريلا "ها ها ها ها إيه الغواصة بنت القحبة اللي راكنها عالشط دي,شكلك عبيط ياد, راجعلك.. بس بعد ما انتخب ليا كلام تاني معاك..سلام".يتكلم فوزى بسهولة وعفوية شديدة مع حيوانات الجزيرة وتبدوالحيوانات مأنسنة في مشاعرها وردود أفعالها وانفعالاتها وكأنها تنتمى لأوساط الطبقة المتوسطة أي القطاع المؤثرفى الخطاب الشعبي، والراوي لا يسقط فى محاولة اختراع عالم موازي ومثالي (مثل عالم الخيول في الجزيرة الأخيرة التي رسى عليها جلليفر) فوحيد القرن يتكلم كمعلم صاحب مزاج ويعرف الأصول و" راسي" وأبنه ينفعل كفتوة نشأ فى عزوة تصارع به للجدعنة وعدم احتمال الاستهتار--- وهكذا وكأننا فى حفلة تنكرية لحيوانات تتخذ أوضاع أنسانية أو بشر يتفاعلون في أشكال حيوانية، لعل الكلمة المفتاح التى حددت مسار السرد هي كلمة " انتخب " التي تعود على لسان كل واحد من الحيوانات القادرة على معاقبة فوزي على استهتاره لتؤجل ذلك لما بعد الانتخاب ثم ذلك الحرص على الانتخاب من أقوياء الغابة فى الجزيرة وأخيرا ذلك التوازي والارتباط بين هذا الحدث الانتخابى من جهة و بين النوكيا وشاحنها والبيتزا والانتخاب (الديمقراطية ) كحزمة واحدة على مبدأtake it or leave itهذا التلازم الذى سوف يعود فى نهاية النص بين رحلةبعد اتمام الانتخاب وانفراج أزمة الغريب(فوزي) الاستهلاكية:"وهم يحملون لي سجائراً و بيتزا (سي فود) و شاحن نوكيا أصلي (مع مولد كهربا)" وأيضا في "خخخخخ أحه.. يعني هو ده اللي لفت نظرك بروح خالتك؟ أمال ليه ما استغربتش من إن عندنا سجاير و بيتزا و شاحن نوكيا؟؟"لحقت نفسي قبل ما يتأكدوا من هطلي و غبائي المتأصل: "لا يا عم الحاج انت فهمتني غلط, أنا كان قصدي هو الانتخابات و الاستفتاءات مضروبة عندكم زي عندنا؟" أنا قلت البق ده من هنا و عينك ما تشوف إلا النور.. الحشد كله وقع على الأرض في نوبة من الضحك الهيستيري رجت أركان الجزيرة الهادئة"وهكذا طبيعي تأتى الحكمة من وحيد القرن فى عالم اصبح وحيدا للقرن ولم يعد متعدد القرون ---هذا فى نهاية النص(ولكن---) فى منتصف النص وبحرص شديد يضع الراوي خبيئته:-- كنت قاعد بولول زي النسوان, و بقول: إلحقيني يامّا شوفتي اللي بيحصل لضناكي, و أثناء الولولة كنت بضرب كيس شيبسي لأسُدّ به بعضاً من جوعي..مرت الساعات و أنا أتأمل نصيبي و حظي المنيّل قابعاً في غواصتي الخضراء الصغيرة التي نفذ منها الأكسجين و الوقود و بضعة أكياس من الشيبسي و لوحين من الشيكولاتة المبندقة (اللي فيها بندق)..دخل الليل برهبته, و أصبح المكان شديد الوحشة..بدأت ثورتي تخمد تدريجياً..تبدل الغضب إلى شعور بالانكسار... و الخوف, لم أستطع مقاومة دموعي التي انهمرت بغزارة لأول مرة منذ زمن بعيد.. بعيد جداً... على ما يبدو, نسيت طعم ملح الدموع, نسيت كيف كنت أترجم أوجاعي إلى بكاء, بدلاً من تحويلها إلى قسوة.. قسوة على نفسي و على من حولي.. ياله من جبروت مزّيف ذلك الذي نخترعه لأنفسنا ذات وجع, لندفن انكساراتنا تحت أساسات خرسانية مسدودة المسام.. لا تسمح لذرة أكسجين واحدة بالمرور.. ها هو الأساس الخرساني يتشقق, و ها هي المياه المالحة تنخر في أسياخ الحديد.. تتفتت شيئاً فشيئأ.. تنفجر الأرض المصنوعة.. و تظهر من جديد الأرض الأم.. يتسلل الأكسجين من جديد ليقبّل أرضه المسجونة تحت توابيت العلب الممسوخة.. (مزيكا حزايني مضروبة في الخلاط مع تلج مجروش)كان هدير البحر يغازل ظلال النور التي حاكها قمر يقصّ الحكايات لنجمات و غيمات.. للرمال.. و لغابة مسحورة تنعس في حضن الجبال و لا تنام..كيف لم أر كل هذا الجمال؟تبدد الخوف.. تبدد انكساري.. ملأت صدري بذلك الهواء الجديد.. استنشقت حنيناً إلى حنين لم أتذوقه من قبل..(مزيكا متفائلة من متتابعة إنشكاح اليعسوب العائد إلى غيط الكستناء)--كعزف منفرد أو كالصورة فى البرواز يخطف الراوي الأبتسامة ويزيحها قليلا لحساب هذا الجانب الذى أصبح معهودا فى فوزي تلك" الجذبة" التى تبرق فجأة كبرق يبدوا من جانب النص ويوشم علامته بإضاءة سريعة ترسل رسائل مفتوحة لنوع من الوعي مدرك وملموس ولكنه مسكوت عنه ومحاصر بخطاب جاهزللسخرية منه لهذا يحرص الراوى على أن يكون هو نفسه أول الساخرين منه في البداية (قاعد بولول زي النسوان) و في الختام (مزيكا حزايني مضروبة في الخلاط مع تلج مجروش)، ولكن مع ذلك تبقى هذه الجذبة كرسالة مشفرة محاطة بكل عوامل تمويهها تترك" لتنتخب" متلقيها وتراكم لفوزي هذا الخيط شديد المتانة الذى يربطه بعمق بواقعه عميق الغور وأصل جذوره ما يشابهه فى هذا الخطاب مع هؤلاء الظرفاء قي تاريخ السرد العربى كأبو دلامة وجحا وعيسى ابن هشام حتى نصل لفلاح كفر الهندوه هذا الخطاب شديد الالتباس لكنه التباس مقصود ورائه رؤية تديره بانتباه ودراية وما هو جدير بالاحتفاء أن التواصلات مع النص تلامست مع هوامش المعنى بسهولة شديدةالهوامش(1) راجع الفوزيات مقدمة نص" فوزى الكلب"(2)هنا موضع سردى شديد........................إقرأ أيضاً:
العنوان والصورة
ملاحاقات الأثر ومراوغات المعنى
يدق العنوان مرة أخرى "كل أجراس الانتباه" فعندما يستحيل الواقع لايبقى للمعنى إلا ما يلامس الجذور عله يصادف عصبا مازال حيا في هذا الموات المقيم(1) فلطالما كان الفلاح بعلاقته المباشرة مع الأرض يكتفي بثماره عن أقواله فبين الأرض والفلاح والحرث علاقة وجود أزلية مذ كان الناس وكان الوجود لهذا " فخيره" كان دائما لغيره كعقد غير مكتوب بينه وبينها لتزداد به التصاقا ويكون له بها جذر الوجود -- بيت /وطن/أصل/ فصل / قبر-- ولحظة الحرث فى الزراعة أحد بنود هذا العقد هى لحظة شديدة الجهد عميقة الجدوى وهى التى مكنت لظهور ما يسمى بالحضارات فوق الأرض هذا عندما يكون السياق له منطقه وحدوده الفاصلة،---- ولكن في عالم الحكايا يقلب الراوى والقلب حلقه من حلقات" الحرث" أو يعكس دائرة المعنى فإذا كان حرث البحر مستحيلا فهذا ما يحال على النص نفسه، ولكن قبل ذلك تأتي كلمة" مرثية" أول كلمات العنوان بكل ما تعني دلالتها من معاني لتأسس وتبث هذا الشجن الذى يهيء المخيلة للنزوع إلى حنين غامض على ما يشكله نبل هذا الإدراك بالفعل اللامجدى فى مواجهة ما يبدو مستحيلا ""حرث البحر""، فالرثاء يكون على القيمة المفتقدة/المفقودة فحرث البحر مفهوم كتندرعلى عدم الجدوى فى عالم الفلاحة كما هو حال ناطح الصخر في شفاهيات الرعاه، مما يشكل حقل دلالي يتخطى العنوان ليخيم على حضور النص، ولكن عندما ننتقل الى الصورة يبدو "المحتمل النقدي" وعناصره عاجز عن اختراق المعنى ما يوحي بحيرة الراوي أمام "احساسه بالجدوى رغم كل معطيات"الواقع اللامجدي" فالصورة تستمر في تجاوزها "كتأمل بالغ التعقيد فى المعنى" كما فى نص( الأورجزمه) وكما فى نص( يوم أينعت رأسى وحان قطافها) لكن الصورة هنا فى تواصلها مع العنوان تنحاز الى عالم السارد الداخلي ما يستدعي لخاطرة جلال الدين الرومى وتسائله المضىء: ولكن ما الصورة إذا جاء المعنى؟(2) وهكذا جاءت الصورة تفرض على الرؤية التجاوز الى النص مستعصية على التأمل— ويبدوا سطح الصوره كمحاولة لزحزحة الافق المحدود الحاوى والقابض لرؤية متجاوزة لمحيطها تنشد الوسع ورغم البريق والشفافية البادية الا ان البلور يبدو بسطحه الأملس المستغلق الاحكام شديد المناعة وصلدا، لوهله يحتار المتلقى هل هذا السجين/الشبح داخل البلورة أم أن هذا هو أنعكاس صورته على سطح البلوره الا ان التكوين ينجح فى تعليق المعنى رغم ترجيح الخلفية الضوئية المرجح، ألى أن يتلامس بعض شعاع المعنى مع الثلث الأخير فى المقطع الأول من النص فالبلور المذهب بحياده كوسيط يعكس الشكل ولكنه يحجب الرؤية نتيجه لنقاء صقل البلورمما يذئبق المعنى، ففى مستدعى وان بدا مفارق (ملمح لشبح سيزيف متوحدا داخل الصخرة التى تحولت لبلورة تحتويه فى مقاربة موازية لعملية حرث لكنها فى الصخرومع الاقدار) وهكذا ينفتح المعنى على مستدعيات أخرى للصورة هذا "التأمل بالغ التعقيد في المعنى المشار اليه" –{ فسيزيف لم تعد على أكتافه الصخره –يحملها الذين يولدون في مخادع الرقيق – والبحر—كالصحراء – لايروى العطش، لان من يقول " لا" لا يرتوى إلا من الدموع!} (3) ليبدو النص البصرى هنا (الصورة/التكوين) كنوع من التواصل بين الموسيقى والنحت، فتلك التكوينات البصرية التي لها عدة تطبيقات أخرى (4) كمقاربات لنوع من التواصل والتراسل بين الفنون(الرسم /التصوير/ الموسيقى/ النثر /الشعر/المقال/الحكى/الكليب) أصبح لها""خطابها"" الداخلى داخل بنية المدونه يراوغ المعنى والأثر بين وضوح الرؤية وعجز الارادة كما تجلى فى نص الأورجوزمه وما تلاه من تدوينات علي سبيل المثال
النص
لبن العصفور وأوتار الهدهد
المسافات بين الذكرى والنيسان
ينقسم النص هنا أيضا كما فى الأورجزمه الى ثلاث مقاطع بثلاث حركات يبدأ أولها، متواصلا مع العنوان وفى تكوين سردى متلاحق ينفذ الراوى الى عالمه الخاص الذى أصبح كمدينة مسحورة تفقد فيها المعانى جاذبيتها المنطقية وتتفكك تماسكاتها الدلالية وتنقلب رأسا على عقب، ففى جملة من تسع كلمات: (" تناول كوباً من لبن العصفور ثم ذهب لحرث البحر.." ) وهكذا بمباغتة سردية كالسهم النافذ يخلخل الراوى مستحيل العنوان بمستحيل موازي ليكون لبن العصفور هو الترياق الممكن، فإذا كان"حرث البحر" فعلا مستحيلا فليتقوت الحارث قوتا مستحيلا ليصبح" لبن"العصفور هذا السائل الذى يستثير في المخيلة تندرا على الاستحالة، كما هى رؤية حلمة الأذن، كوبا جاهزا للتناول وليتحول حرث البحر إلى عمل ذو جدوى، من الممكن الانتهاء منه فى أمد معلوم، وقبل أن ينهي سطره الأول يعاجل الراوى بمعوله مخيلة المتلقي قبل تهيأها لتجاوزالتلاحق السردى معتمدا على الرصيد الشفاهى لأيقونة (أعمل الخير وأرميه فى البحر) (5) موظفا لها ومغلقا الدائرة حول مخيلة المتلقى ساحبا له" لمنطق /لامنطق" عالمه تماما ليتراكم المشهد حول هذا الذى شرب لبن العصفور وذهب ليحرث البحر لكنه إلى الآن لم يواجه المتلقى بوجهه، وينهمك فى العمل، وتتكامل للمباغتة السردية عناصرها بتطور درامى سريع فيصطدم معوله "بالخير" الملقى من أحدهم هذا الخيرالذى يتحول لكائن حى يأن موسيقى ويتوجع وتسيل منه الدماء في أثناء اندماج الحارث فى حرثه ليظهر فوزي فى مشهد شديد التعقيد بين الأنين والدماء والموسيقى والألم المتبادل والندم المتجاوز الى الشعور بالجريمة والمتبوعه بالعقاب الفوري والعاجل والفظيع معا تاركا المتلقى بين الدهشه والفزع "فقطم كل هذه الأصابع دفعه واحده في فعل"أوديبي" "تطهرى" رغم أفتقاره الي المأساه؟! لذا فهو يقترب الى حد الجنون والتوحش (عض أصابعه ندماَ حتى انفصلت عن كفيه, لم يتبق من أصابعه العشرة سوى وسطى اليمنى) ولكنه رغم كل هذا يغرس بمنتهى الخفة"حيله سردية" بحجم الأصبع لها حينها،
وهنا يجب التوقف قليلا فظهور فوزي إزداد تماسكا و كثافة بحضور عميق الدلالة شديد الجاذبية وبدأ يستحضر طقوسه ،لقد زحف فوزي فى عالمه السردى وأصبحت له قدرته الذاتية على المناورة التى تكاد أن تحاور الراوي.
ترك السارد للمتلقي ومخيلته فرصة للتنهد ليعاود إغراءه "بكل ما تعنى فى المخيله كلمة " مرت الأيام" تلك التنهيدة التى تعبر شفاهة عن براحة الارتجال في الحكي وتعطي للخيوط السردية استطالتها وللمتلقي الترقب، فوزى عليل القلب دامع العينان، لقد تحول الخير المرمي الى جثه/عدم دنيوى " تحول الى خير حقيقى" وهنا لابد من الانتباه أن تلك المدينة التى يشرب فيها لبن العصفور ويحرث فيها البحر ويتحول فيها عمل الخير الى كائن حى هي ليست مدينه معاكسة لما يصطلح عليه في عالم الواقع، ، فقابلية عمل الخير للموت فيها لم تكن هى المشكلة و ليس حرث البحر ولا لبن العصفور ولكنه احساس فوزى غير المبرر الذى بدى فيه وكأنه ينتمى لثقافة الخطيئة الأولى هو ما مكن للسارد إنشاء أحجيته السردية لتتكامل للنص بنيته الساخرة ، ينهى السارد هذا الجزء من النص موظفا تلك الموسيقى/الأنين الذى (يشبه الموسيقى ولا يشبهها يمزق الدنيا من حوله" ليخيم جو الرثاء بكل طقوسه الصوت/المقبرة/الورود الذى يختم بها الراوى حكيه فى هذا المقطع بقطعة وكأنها هامش ضوئى للصورة فهو يصف الورود في ثنائيات متقاطعة وتكوينات جمالية محبلة بالمعنى بين الموت والحياة /الرقص والبريق /الملح والجرح /عذوبة وأنين وهكذا بين دفن الخير المرمى ونهاية المقطع اللأول كان حضور الصورة هو فائض المعنى.(6)
هوامش على المعنى
يبدأ السارد المقطع الثانى فى تواصل بديع الرشاقة فبين كلمتى –ذات يوم/ ذلك الصباح (7) كانت هناك انسيابية تحاكى موج البحر الهادي ولكن تأتى جملة " ذلك الصباح كان مختلفا" لتنعش للمخيلة توجساتها التى يؤججها السارد بظهورالغريب " فاعل الخير" والذى بدأ وكأنه يعرف فوزي بل كأنه يراقبه فهو لم يحتاج لأى ايضاح من فوزي الذى ظل على ألمه ولوعته ونواحه، فى ظلال رثاء مخلوط بندم مجهول المصدر فهو كان يمارس عمله ولم يتعمد إصابة هذا الخير المرمى الأمر الذى يشوش المخيلة ويبقيها على حذرها من فوزي ، يتواصل الغريب مع فوزي وكأنه يتحالف معه على المتلقى يأتى ومعه كل الإجابات ليعيد لعالم فوزي هدوئه ويلملم خيره المسجى يأتى ليحل مشكلته ومشكلة فوزي بسبب عملية" تذكر" مفاجئه وبين لذة المن "الذريعة الملتبسة بأيحاء الأنصاف المفتقد" وسلمت يداك وأدام الله إصبعك يا فوزي أسفر النص عن سخريته العميقة فهذا الغريب في غاية الغموض ورؤية فوزي له لم تكن تميل الى الحياد، لقد" نبش" القبر، والنبش كلمة وإن كانت تعبر عن الفعل بدقه إلا إنها ثقيلة على القلب وهكذا حال لايكون من" خل وفي" مجهول الإسم والهوية الذى أتى لياخذ معه خيره المسجى و" يعالج عبطه المدعى" ومؤخرته الكليمة" ليحصد لذة المَنّ وأذاه "---وألم فوزي----وهكذا ينتهى المقطع الثانى باختفاء الغريب وبنية الحكايا إلا من أثارها على يد فوزي التى تترك المتلقي فى حيرة من الكيفية التى يتعامل بها فوزي مع(8) معوله
يبدأ مشهد الختام في المقطع الثالث" كحتمية درامية" بعودة الصمت (وتبخر صوت الانين-- وعاد الصمت-- جف الدم والدمع--- وسافرت الورود)، لهذا عندما التقط معوله! مرة أخرى ليكمل حرث البحر ولأول مرة استخدم "أوان المشمش" فى موقعة الدلالى متجاوبا مع ما السياق اللالى المتوارث عن مقولة" الخل الوفي" (في المشمش) كمستحيل من المستحيلات الثلاث ممهدا لأستعادة حيلته السردية التي طمرها فى بداية الحكايا، قالبا بخبث شديد عالم الحكى رأسا على عقب مرة اخرى فى اشارة" غير ودية" (لخبثه/ حرصه) الشديد على الاحتفاظ باصبع الوسطى وحركية عقله الثلاث فى اليد اليمنى( أن بقي لليد حيله) فهكذا يد لم يعد لهاالا محيط محدود و" غريب " ؟! بعض الشىء-- من الفعل فى دعم مباشر--- لكلمة الختام التى تنهي كل الحكايا
---------------------------
الهوامش
(1)
http://en.wikipedia.org/wiki/For_Whom_the_Bell_Tolls
http://www.4uarab.com/vb/showthread.php?t=11151
(2) تبدو بعض ظلال التباسات نص الأورجزمه ما أدى الى شرح النص من مبدعه الى جانب" التعقيب"االذى أضطر له المدون/الراوى في النص السابق ( رجل أسد وبردقوش)
يقول جلال الدين الرومي"المرء مع من لايفهمه مثل السجين"
(3) أمل دنقل –كلمات سبارتكوس الأخيرة
لاتحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد--(حرث آخر)
(4) أنظر على سبيل المثال تدوينات--البديات اللأخيره—مارس 14/ 2006
كلام مرسل وخلاص--- أبريل 12/ 2006
تشتهينا المساحة----- أبريل 26/ 2006
(5) راجع تدوينة فوزي أمثال--- ديسمبر 5/ 2006
(6) النص هنا مكتمل التكوين بحيث انه لو انتهى هنا نهاية( المقطع الأول) "أم ألم العذوبة أنت { أيا } أنيناً لخير نسيه صاحبه ذات يوم.."، فالنص هنا يبدو منسجم مع أتساع رؤية الراوى كما تبدو فى الصوره( قارن على سبيل المثال ببوسط---نافذة الجنون- أغسطس 31/2006 وهو من البوستات التى أختفت فيه الصورة) ولكن يبدوا ان ظلال التلقي عموما على نص الأروجزمه كان له شبح حضوره ، لايفسرذلك الا حميمية العلاقه بين الفنان ومحبيه فهو حريص على التواصل لهذا فتح الإفق للمعنى بين العنوان والصورة ، ثم جعل من الثلثين الاخرين من النص تنويعات مختلفة على المعنى كنوع من تفكيك اللأثر فيما يمكن ان يكون "هوامش على المعنى "
(7) يستخدم الراوى هذا التكنيك السردى ، أو كما أشرت فى نص الأورجزمه تلك( الخاطفه السردية) كنوع من الوصل والفصل
(8) يمثل العجز والتعجيز ومحاولات تجاوزه علامة مصاحبة لفوزي يقابله فى الآن تماسك شديد الصلابة وأن بدا غامض المصدر أمام هذه الاشكالية الجوهرية( العجز المقيم) هذا التماسك الذى يتخطى الذات وقوانين الوجود كصراع، بتكنيك هو مزيج من السخرية ظاهره اللامبالة وباطنه إيمان عميق بالقدر